قصة يوسف عليه السلام وكيف أن الله جعل
معجزته في تفسير الأحلام وكيف أثرت الرؤيا في نجاة دولة مصر من الهلاك، وكيف كانت
مكانة يوسف عليه السلام بعد ذلك
قَصَّ الله علينا قصةَ يوسف عليه السلام
كاملةً في سورة سُمّيت باسمه: (سورة يوسف)، وكانت معجزة يوسف عليه السلام هي تأويل
الرؤى، كما أن غيره من الأنبياء كانت معجزته في أمور أخرى كمعجزة النبي محمد بن
عبد الله، كانت في القرآن الكريم.
وبدأت قصة يوسف برؤيا رآها ذَكرها لأبيه
النبي يعقوب عليه السلام فقال: (إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ
أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ) فكانت
هذه الرؤيا مقدمة لما وصل إليه يوسف عليه السلام من الارتفاع في الدنيا والآخرة.
وهكذا إذا أراد الله أمراً من الأمور العِظام
قدّم بين يديه مقدمة، توطئة له، وتسهيلاً لأمره، واستعداداً لما يَرِدُ على العبد مِن
المشاق، لطفاً بعبده، وإحساناً إليه، فأوَّلها يعقوبُ بأنّ الشمس: أمّه، والقمر: أبوه،
والكواكب: إخوته، وأنه ستنتقل به الأحوال إلى أن يصير إلى حال يخضعون له، ويسجدون له
إكراماً وإعظاماً، وأن ذلك لا يكون إلا بأسباب تتقدمه من اجتباء الله له، واصطفائه
له، وإتمام نعمته عليه بالعلم والعمل، والتمكين في الأرض.
ولما بان تعبيرها ليوسف، قال له أبوه: (يَا بُنَيَّ
لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا) حسداً من عند أنفسهم،
أن تكون أنت الرئيسَ الشريفَ عليهم. فعُلم من هذا أنه لا تُحكى الرؤى إلا لمن يُحب
لنا الخير، أو لمن يحسن تعبيرها من العلماء، وقد اجتمعت الصفتان في يعقوب عليه
السلام. وقد قال النبي محمد صلى الله عليه وسلم: (لا تقص الرؤيا إلا على عالم أو
محب).
(إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ)
لا يفتر عنه ليلاً ولا نهاراً، ولا سراً ولا جهاراً، فالبعد عن الأسباب التي يتسلط
بها الشيطان على العبد أَولى، فامتثل يوسفُ أَمْرَ أبيه، ولم يُخبر إخوته بذلك، بل
كتمها عنهم.
(وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ) أي: يصطفيك
ويختارك بما يمنُّ به عليك من الأوصاف الجليلة والمناقب الجميلة (وَيُعَلِّمُكَ مِنْ
تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ) من تعبير الرؤيا، وبيان ما تؤول إليه الأحاديث الصادقة، كالكتب
السماوية ونحوها، (وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) في الدنيا والآخرة، بأن يؤتيك في
الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، (كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ
وَإِسْحَاقَ) حيث أنعم الله عليهما، بنعم عظيمة واسعة، دينية، ودنيوية. (إِنَّ رَبَّكَ
عَلِيمٌ حَكِيمٌ) علمه محيط بالأشياء، وبما احتوت عليه ضمائر العباد من البر وغيره،
فيعطي كلَّ إنسانٍ ما تقتضيه حكمته وحَمْدُهُ، فإنه حكيم يضع الأشياء مواضعها، وينـزلها
منازلها.
وكأنّ إخوة يوسف علموا بالرؤيا وتفسيرها،
وبما سيكون مقام يوسف في المستقبل، فكاد إخوة يوسف به كيداً عظيماً، كان هذا الكيد
خيراً كبيراً عليه، حيث باعوه بثمن قليل جداً، وانتقل إلى دولة مصر ليعيش عيشة
العز، ليكبر وتبدأ الأحداث العجيبة في حياته، وهنا تبدأ محنةٌ جديدة في حياة يوسف،
وهو تعرّضُ فتنة النساء عليه، فتعفف وامتنع عن الحرام فكانت المحنة الثالثة وهي
السجن، بسبب عفته وتنـزّههِ وامتناعه عن الزنا، فدعا ربه أن يحميه من كيد النساء
وفتنتهنّ، فاستجاب له ربُّه لتقواه، وصرف عنه كيد النساء المغريات له.
ومن عمق المحنة تأتي المنحة، وبدأ الفرجُ
يأتي (و) ذلك لما دخل يوسف السجن، كان في جملة من (دَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ)
شابان، فرأى كل واحد منهما رؤيا، فقصها على يوسف ليعبرها، فـ (قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي
أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي
خُبْزًا) وذلك الخبز (تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ) بتفسير
المنامين، وما يؤول إليه أمرهما، (إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) من أهل الإحسان
إلى الخلق، الْمُتْقِنين لِفِعْلِ الخيرِ وحُبِّهِ للآخَرين، فأَحْسِنْ إلينا في تعبيرك
لرؤيانا، كما أَحسنتَ إلى غيرنا، فتوسَّلا ليوسف بإحسانه وإتقانه لحب الخير، فـ (قَالَ)
لهما مجيباً لطلبهما: (لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلا نَبَّأْتُكُمَا
بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا) فلتطمئن قلوبكما، فإني سأبادر إلى تعبير
رؤياكما، فلا يأتيكما غداؤكما، أو عشاؤكما، أول ما يجيء إليكما، إلا نبأتكما بتأويله
قبل أن يأتيكما، (ذَلِكُمَا) التعبير الذي سأعبره لكما (مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي)
ودعاهما إلى الله وحذرهما من الكفر والشرك بأسلوب رائع ومنطق سليم، ثم شرع في تعبير
رؤياهما فقال: (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا)
وهو الذي رأى أنه يعصر خمراً، فإنه يخرج من السجن (فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا) يسقي
سيّدَه الذي كان يخدمه خمراً، وذلك مُسْتَلْزِمٌ ومُبشّرٌ له بخروج هذا الفتى مِن السجن
ليسقي سيده الخمر، (وَأَمَّا الآخَرُ) وهو الذي رأى أنه يحمل فوق رأسه خبزاً تأكل الطير
منه (فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ) فإنه عبّر عن الخبز الذي تأكله
الطير، بلحم رأسه وشحمه، وما فيه من المخ، وأنه لا يقبر ويستر عن الطيور، بل يصلب ويجعل
في محل تتمكن الطيور من أكله، ثم أخبرهما بأن هذا التأويل الذي تأوله لهما، أنه لا
بد من وقوعه فقال: (قُضِيَ الأمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ) تسألان عن تعبيره
وتفسيره. وسَمّى النبي يوسفُ التأويلَ للرؤيا "فتيا". فَلْيَتَّقِ
اللهَ مَن يَستخفّ في تفسير الرؤيا.. إنكاراً وجحوداً أو استهزاءً..
(وَقَالَ) يوسف عليه السلام: (لِلَّذِي ظَنَّ
أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا) وهو الذي رأى أنه يعصر خمراً (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ)
اذكر له شأني وقِصتي وكيد الكائدين ضدي، لعله يدرك كيد النساء لي فيخرجني مما أنا فيه،
(فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) فأنسى الشيطانُ ذلك الناجيّ أن يذكر
حاجة يوسف، وذلك ليتم الله أمره وقضاءه، (فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) والبِضع
من الثلاث إلى التسع، ولهذا قيل: إنه لبث سبع سنين، ولما أراد اللهُ أنْ يُتمّ أمرَه،
ويأذن بإخراج يوسف من السجن، قدّر لذلك سبباً لإخراج يوسف وارتفاع شأنه وإعلاء قدره،
هذا السبب: منام الملك، رؤيا الملك، وكان بالإمكان أن يُخرج اللهُ النبيَّ يوسفَ
من السجن بوسيلة أخرى غير وسيلة الرؤيا، ولكن لأهمية الرؤيا الصادقة وأثرها في
حياتنا: جعلها الله سبباً لخروج النبي يوسف من السجن فقصّ الله علينا هذا السبب
الرائع فقال: (وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ
سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأ
أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ).
ومَن أَقْدَرُ على تعبير هذه الرؤيا مِن
يوسف؟ فكانت بحق وسيلة مذهلة في تفريج كرب يوسف ونجاته من السجن وتبوّئه أرقى
المناصب: "عزيز مصر" (رئيس مجلس الوزراء) وتبوأ أيضاً منصب: (وزير
الاقتصاد) فكان التأويل على يد يوسف، ليظهر الله من فضله، ويبين من علمه ما يكون له
رفعة في الدارين، ومن التقادير المناسبة أن الملك الذي ترجع إليه أمور الرعية هو الذي
رآها، لارتباط مصالحها به، وعجز المفسرون في عصر الملك عن تفسيرها، ليكون هذا
مزيداً من فضل الله على نبيه يوسف وإظهاراً للمنهجية الصحيحة في تفسير المنامات
بعيدة عن الخرافات والخزعبلات لأن التفسير فتوى وعِلم وفنّ، لذلك قال العاجزون عن
تفسير منام مهمّ مصيري: (قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ) أي أحلام لا حاصل لها، ولا لها
تأويل (وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأحْلامِ بِعَالِمِينَ) أي: لا نعبّر إلا الرؤيا،
وأمّا الأحلام التي هي من الشيطان، أو مِن حديث النفس، فإنا لا نعبّرها.
فجمعوا بين الجهل وبين الجرأة والجزم بأنها أضغات
أحلام، بحيث إنهم لم يقولوا: لا نعلم تأويلها، وهذا مِن الأمور التي لا تنبغي لأهل
الدّين والتخصص، كما لا يجوز للمتهاونين بتفسير الرؤى أن يستخفوا بموضوع الرؤى
لمجرد أنها رؤى، بحجة أننا في عصر العلم والتطور، ولا أدري ما علاقة المنامات
الصادقة بعصر العلم والتطور؟!! وهل تتناقص الرؤى الصادقة والمنامات الصحيحة
الربانية مع عصر العلم؟ ألم يكن النبي عليه الصلاة والسلام أرقى الناس علماً ودعوة
إلى العلم والتطور؟ ومع هذا كان يفسر المنامات، ويفسر أصحابه المنامات بحضرته
وبغيابه وبعد انتقاله إلى ربه ..
وكم من منام كان سبباً في نجاة أمة كما حصل
لمنام ملك مصر وهو غير مسلم ..
وكم من منام كان عن طريقه اكتشاف أدوية أنقذت
أمماً من الهلاك، كاكتشاف دواء السكري، واكتشاف عدد من الاختراعات والأدوية عن
طريق الرؤيا الصادقة، كما سيأتي بعد قليل ..
إن هذا الاستخفاف بالمنامات من بعض الدعاة
لشيء عجاب ..!!!
ولذلك
كان مِن لطف الله بيوسف عليه السلام أن الجهلة استنكروا رؤيا الملك ووصفوها
بالأضغاث الأحلام، كما يفعل بعض الدعاة اليوم، فكانت الآية رداً وردعاً للمستخفين ليبين
جهل الجاهل وعجز العاجز، وليبين فضل الله على المختصين في تفسير المنامات كسيدنا
يوسف، وعلم من حوله عليه السلام فضله وصدقه، (وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا) وهو:
الذي رأى أنه يعصر خمراً، وهو الذي أوصاه يوسف أن يذكره عند ربه (وَادَّكَرَ بَعْدَ
أُمَّةٍ) فتذكّر يوسف، وما جرى له في تعبيره لرؤياهما، وما وصاه به، وعَلم أنه كفيل
بتعبير هذه الرؤيا بعد مدة من السنين فقال الفتى: (أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ
فَأَرْسِلُونِ) إلى يوسف لأسأله عنها، فأرسلوه، فجاء إليه، ولم يعنفه يوسف على نسيانه
بل التمس له العذر واستمع ما يسأله عنه، وأجابه عن ذلك فقال: (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ)
يا كثير الصدق في أقواله وأفعاله (أَفْتِنَا) سَمّى التفسير فتوى (فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ
سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ
لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ) فإنهم متشوقون لتعبيرها،
وقد أهمتهم.
فعبر يوسف: السبع البقرات السمان والسبع السنبلات
الخضر، بأنهن سبع سنين مخصبات، والسبع البقرات العجاف، والسبع السنبلات اليابسات، بأنهن
سنين مجدبات، ولعل وجه ذلك - والله أعلم - أن الخصب والجدب لما كان الحرث مبنيا عليه،
وأنه إذا حصل الخصب قويت الزروع والحروث، وحسن منظرها، وكثرت غلالها، والجدب بالعكس
من ذلك. وكانت البقر هي التي تحرث عليها الأرض، وتسقى عليها الحروث في الغالب، والسنبلات
هي أعظم الأقوات وأفضلها، عبرها بذلك، لوجود المناسبة، فجمع لهم في تأويلها بين التعبير
والإشارة لما يفعلونه، ويستعدون به من التدبير في سني الخصب، إلى سني الجدب فقال: (تَزْرَعُونَ
سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا) متتابعات، (فَمَا حَصَدْتُمْ) من تلك الزروع (فَذَرُوهُ) اتركوه
(فِي سُنْبُلِهِ) لأنه أبقى له وأبعدُ من الالتفات إليه (إِلا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ)
أي: دبّروا أيضا أكلكم في هذه السنين الخصبة، وليكن قليلاً ليكثر ما تدخرون ويعظم نفعه
ووقعه.
(ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ) بعد تلك
السنين السبع المخصبات (سَبْعٌ شِدَادٌ) مجدبات جداً (يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ)
يأكلن جميع ما ادخرتموه ولو كان كثيراً (إِلا قَلِيلا مِمَّا تُحْصِنُونَ) أي: تمنعونه
من التقديم لهن.
(ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ) السبع الشداد
(عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) فيه تكثر الأمطار والسيول، وتكثر
الغلات، وتزيد على أقواتهم، حتى إنهم يعصرون العنب ونحوه زيادة على أكلهم. ولعل استدلاله
على وجود هذا العام الخصب، مع أنه غير مصرح به في رؤيا الملك، لأنه فهم من التقدير
بالسبع الشداد، أن العام الذي يليها يزول به شدتها، ومن المعلوم أنه لا يزول الجدب
المستمر سبع سنين متواليات، إلا بعام مخصب جداً، وإلا لما كان للتقدير فائدة.
فلما رجع الرسول إلى الملك والناس، وأخبرهم بتأويل
يوسف للرؤيا، عجبوا من ذلك، وفرحوا بها أشد الفرح.
يقول تعالى: (وَقَالَ الْمَلِكُ) لمن عنده (ائْتُونِي
بِهِ) أي: بيوسف عليه السلام، بأن يخرجوه من السجن ويحضروه إليه، فلما جاء يوسفَ الرسولُ
وأمره بالحضور عند الملك، امتنع عن المبادرة إلى الخروج، حتى تتبين براءته التامة،
وهذا من صبره وعقله ورأيه التام.
فـ (قَالَ) للرسول (ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ) ارجع
إلى سيّدك الملك (فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ)
اسأله ما شأنهن وقصتهن، فإنّ أمرهن ظاهر متضح (إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ)
.
فأحضرهنّ الملك، وقال: (مَا خَطْبُكُنَّ)،
ما شأنكن؟ (إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ) فهل رأيتن منه ما يريب؟
فبرَّأنه و (قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا
عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ) قليلٍ ولا كثير.
فحينئذ زال السبب الذي تنبني عليه التهمة، ولم
يبق إلا ما عند امرأة العزيز، فـ (قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ)
تَمحَّضَ وتَبيّن الحقُّ بعد ما كنا نتظاهرُ بالحقّ فنتهم يوسف بالسوء والتهمة حتى
أوصلناه إلى السجن، لأنه امتنع عن ممارسة الشهوة معنا. الحقُّ هو: (أَنَا رَاوَدْتُهُ
عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) في أقواله وبراءته.
فلما تحقق الملك والناس براءة يوسف التامة، أرسل
إليه الملك وقال: (ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي أجعله مِن خاصّة نفسي،
ومقرباً لديَّ. فأتو به مكرماً محترماً، (فَلَمَّا كَلَّمَهُ) أعجبه كلامه، وزاد موقعه
عنده فقال له: (إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا) عندنا (مَكِينٌ أَمِينٌ) متمكن أمين على
الأسرار، فـ (قَالَ) يوسف طلباً للمصلحة العامة: (اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأرْضِ)
على خزائن جبايات الأرض وغلالها، وكيلاً حافظاً مُدبراً، (إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ)
حفيظ للذي أتولاه، فلا يضيع منه شيء في غير محله، وضابطٌ للداخل والخارج، خبير عليم
بكيفية التدبير والإعطاء والمنع، والتصرف في جميع أنواع التصرفات، لأنه رجل صالح قد
عرف من نفسه من الكفاءة والأمانة والحفظ ما لم يكن الناس آنذاك يعرفون ما يعرفه
يوسف، والواقع والتجربة والاختبار أثبت له ذلك فأنقذ دولة مصر من الهلاك، وثبت
للملك صلاح يوسف وعلمه وخبرته وحبه للصالح العام، وانتشر خبر يوسف في الأرض، وخيره
وعدله وأمانته، وأظهر الله مكانة النبي يوسف وفضله وقدره فقال: (وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا
لِيُوسُفَ فِي الأرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ
نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلأجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ
آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ).
وحان وقت تفسير رؤيا يوسف وهو صغير بعد سنين
طويلة، (فَلَمَّا) تجهز يعقوب وأولاده وأهلهم أجمعون، وارتحلوا من بلادهم قاصدين الوصول
إلى يوسف في مصر وسكناها، فلما وصلوا إليه، و(دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ
أَبَوَيْهِ) ضمهما إليه، واختصهما بقربه، وأبدى لهما من البر والإكرام والتبجيل والإعظام
شيئاً عظيماً، (وَقَالَ) لجميع أهله: (ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ)
من جميع المكاره والمخاوف، فدخلوا في هذه الحال السارّة، وزال عنهم النَّصَبُ ونَكَدُ
المعيشة، وحصل السرور والبهجة، (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ) على سريرِ الملك،
ومجلسِ العزيز، (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا) أي: سجد أبوه، وأمه، وإخوته، سجوداً على
وجه التحية والتبجيل والإكرام، (وَقَالَ) لما رأى هذه الحال، ورأى سجودهم له: (يَا
أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ) حين رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر
ساجدين، فهذا وقوعها الذي آلت إليه ووصلت (قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا) فلم يجعلها
أضغاث أحلام.
لَمّا أتم الله ليوسف ما أتم مِن التمكين في
الأرض والملك، وأقرّ عينه بأبويه وإخوته، وبعد العِلم العظيم الذي أعطاه الله إياه،
قال مُقرّاً بنعمة الله شاكراً لها داعياً بالثبات على الإسلام:
(رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ)
جعلتني عزيز مصر، وعلى خزائن الأرض وتدبيرها ووزيراً كبيراً للملك (وَعَلَّمْتَنِي
مِنْ تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ) علّمتني علم تأويل الرؤيا وغير ذلك مِن العلم (فَاطِرَ
السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا)
أَدِمْ عليّ الإسلام وثَبّتني عليه حتى تتوفاني عليه، وهو دعاء بحسن الخاتمة لما
يأتي الأجل (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) من الأنبياء الأبرار والأصفياء الأخيار.
وبناء على هذه الآيات العجيبة والأحداث
المشوّقة، تبين أن تفسير الرؤى مُسمّى في القرآن: (عِلم) ومُسمّى في القرآن (فتوى)
وجعله النبي يوسف فضلاً وعلماً وكرماً واختصاصاً من الله عليه لمّا علمه تفسير
المنامات، فما بال الذين ينكرون تفسير الأحلام يستخفون بما سماه الله عِلماً وفتوى
وكرماً منه وفضلاً على من يشاء من عباده؟ وليس هذا مختصاً بالنبي يوسف ولا
بالأنبياء، بل علّمه النبيُّ عليه السلام أصحابَه الكرام، وأجاز لهم أنْ يفسروا
المنامات، وانتشر بين الصحابة الكرام مَن هم مفسرون للرؤى كأبي بكر وعمر وعائشة
وحفصة وأسماء وغيرهم، رضي الله عنهم، ومَن بعدهم محمد بن سيرين وسعيد بن المسيب
وغيرهم، ومن بعدهم مِن العلماء والأئمة الكثير، انتشروا واشتهروا وألّفوا وأفْتَوا
في تفسير الأحلام مِن غير نكير ولا استنكار من أحد .. حتى جاء في زماننا هذا مَن
تجرّأ على هذا العلم، واستخفّ به، وصار ينكره أو يستخف به، وقابلهم ناس آخرون، فتبوؤا
منصب التفسير بجهل وجرأة بلا عِلم.. فكانت الطامة من جهتين جهة المنكرين لهذا
الفن، والمستخفين به، وجهة الجاهلين به والمتجرئين عليه، ونحن أمّة وسطاً عدلاً،
لا ننكر ولا نستخف بما شرعه الله ورسوله، ولا نفتي بجهل ولا جرأة على الله ورسوله،
بل العلم نور، والقرآنُ والسنةُ خير سندٍ لنا في تقرير مشروعية تفسير الأحلام.
جميييييييل
ردحذف